صادق، رجل الأعمال الكاذب

مقال - ميدار.نت.. بقلم: حسين القمزي - خبير اقتصادي إماراتي
مقالات
01 أبريل 2024
Cover

 

مقال - ميدار.نت.. بقلم: حسين القمزي - خبير اقتصادي إماراتي

تخيل رجل اعمال ذو شخصية جذابة إسمُه صادق، وقد أطلق للتو نوعًا جديدًا من المنتجات الاستثمارية يسمى " حساب العوائد الخيالية". يعد هذا المنتج ، مع انه لايشبه الحساب في اي شيء ولا يعمل كحساب ، بعوائد غير مسبوقة على الاستثمار من خلال استراتيجية معقدة ومبهمة تتضمن أصول مضاربة وخوارزميات متطورة. 

صادق هو سيد الإقناع، فهو يمزج المصطلحات التقنية مع التفاؤل بشأن مستقبل هذا المنتج . خلال اجتماعاته مع المستثمرين ، يؤكد صادق بثقة أن " حساب العوائد الخيالية " يعمل ضمن إطار منظم ذاتيًا. ويوضح أن فريقه قام بتطوير نظام داخلي للضوابط والتوازنات، مستفيدًا من التكنولوجيا المتقدمة والنماذج الرياضية المعقدة لإدارة المخاطر وحماية اموال المستثمرين. يصر صادق على أن هذا التنظيم الداخلي يتفوق بكثير على أي رقابة خارجية، والتي يدعي أنها يمكن أن تخنق الابتكار وتقلل من احتمالات تحقيق عوائد ضخمة. وكثيرا ما يقول: "لماذا نعتمد على هيئات تنظيمية بيروقراطية بطيئة الحركة بعد ان قمنا بتطوير نظام "لا يحدد المخاطر ويخففها في الوقت الفعلي فحسب، بل يزيد أيضًا من المكاسب إلى الحد الأقصى؟ "تقنيتنا فقط هي الجهة التنظيمية لدينا." 

ولكن لماذا لم توجد أبداً في تاريخ الاقتصاد نماذج رياضية وخوارزميات قادرة على التكيف بسرعة كافية مع حركة السوق؟ السبب هو ان ما يحرك السوق هو البشر، قرارات الناس تمتزج بالعقلانية و المشاعر والمخاوف والطمع. يتجاهل “صادق” للحقيقة الأساسية بأن أسواق المال تتسم بالتقلب ولا يمكن التنبؤ بها بشكل كامل، خصوصًا عند الاعتماد على اصول مضاربة خطرة جدا و زعم ان النماذج الرياضية كافية للسيطرة على هذه المخاطر . 

رجل الأعمال صادق يتجاهل فكرة أن الإشراف الخارجي والتنظيم ليسا للحد من الابتكار، بل لحماية السوق والمستثمرين من المخاطر غير المحسوبة.

هذه هي حكاية عالم التشفير حتى الان : الوعد بعوائد عالية من دون حسيب ولارقيب.

ليلة الخميس أصدرت محكمة امريكية حكمًا بالسجن لمدة 25 عامًا على سام بانكمان-فرايد، مؤسس منصة تبادل العملات الرقمية FTX، في قضية تعد ربما الأطول تاريخياً في سنوات السجن كعقوبة لجريمة اقتصادية في الولايات المتحدة. 

الحكم فاجأ المتابعين والمراقبين، وجاء كرد فعل على تصرفات بانكمان-فرايد خلال المحاكمة ومحاولته المستمرة للدفاع عن براءته، بما في ذلك الكذب أمام المحكمة ومحاولة ترهيب شاهد، وهو ما لم يسهم في الحصول على حكم مخفف.من الناحية الأخرى، حاول محامو الدفاع تقديم بانكمان-فرايد على أنه "شخص محب للرياضيات وليس لديه نية للأذى"، وأن الخسائر الناتجة عن إفلاس FTX قد تكون أقل بكثير مما كان متوقعًا، بل وربما تصل إلى الصفر، نظرًا لارتفاع قيمة أصول العملات الرقمية والاستثمارات الأخرى التي تمتلكها المنصة.

لكن ما يطرحه هذا الحكم من أسئلة يتعدى مجرد مصير بانكمان-فرايد أو منصة FTX. أهمية هذا الحُكم تكمن في التداعيات المستقبلية لهذه القضية على عالم العملات الرقمية ككل. فرغم الحكم القاسي، يشهد قطاع العملات الرقمية انتعاشًا وتحسنًا في الأداء، ما يدل على أن الحكم لم يكن له ذلك التأثير المثبط الذي كان يأمل فيه البعض. 

هذا يعكس الطبيعة الفريدة والمستقلة للقطاع، الذي يستمر في النمو والتطور رغم التحديات القانونية والتنظيمية.الدرس الأساسي هنا يتجاوز قضية بانكمان-فرايد نفسه ليشير إلى أهمية الشفافية والنزاهة والحاجة إلى إطار تنظيمي واضح وفعال يحمي المستثمرين ويساهم في استقرار ونمو قطاع العملات الرقمية. بينما يستعد القطاع للمستقبل، تبرز الحاجة الماسة للتوازن بين الابتكار والتنظيم، لضمان ألا تقوض الفضائح المالية ثقة المستثمرين والمستخدمين في هذا النظام الناشئ.التوجه المستقبلي لعالم العملات الرقمية يقتضي تبني ممارسات أكثر شفافية ومسؤولية من قبل الشركات العاملة في هذا القطاع. من الضروري العمل على إعادة بناء الثقة في السوق، من خلال تطبيق معايير صارمة للإفصاح والتدقيق المالي، وتعزيز الإجراءات الرقابية لمنع الاحتيال وغسيل الأموال.

يجب على الهيئات التنظيمية حول العالم العمل معًا لإنشاء إطار قانوني موحد يحمي المستثمرين دون أن يخنق الابتكار. الحاجة إلى التعاون الدولي واضحة، خاصة في مواجهة التحديات التي تطرحها الطبيعة العابرة للحدود للعملات الرقمية والأصول الرقمية.من جانب آخر، يجب على المستثمرين والمستخدمين أيضًا توخي الحذر وإجراء البحوث اللازمة قبل الاستثمار في الأصول الرقمية، والابتعاد عن الإغراءات التي تبدو جيدة جدًا لدرجة أنها لا تصدق. الثقافة المالية والوعي بالمخاطر يمثلان عاملين حاسمين في حماية المستثمرين في هذا القطاع المتطور بسرعة.

في النهاية، إن الدرس المستفاد من قصة “صادق” هو تذكير قوي بأهمية الشفافية والمساءلة في عالم الأعمال، خاصة في قطاع العملات الرقمية الذي يتسم بالتعقيد والمخاطر. أنا متأكد ان مصير “صادق” كان سيكون مماثلا لما حدث مع سام ، التناقض بين القول والفعل يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة والمصداقية، فعدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية والتنظيمية يمكن أن يكون له عواقب وخيمة.

القضية التي واجهها سام بانكمان-فرايد ومنصة FTX تسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى تطوير وتنفيذ إجراءات تنظيمية وإشرافية أكثر صرامة في عالم العملات الرقمية. 

الرسالة واضحة: الابتكار يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع النزاهة والمسؤولية والشفافية.

أن الشفافية والرقابة الخارجية ليسا فقط آليات للحماية، بل أسس لبناء علاقات متينة ودائمة مع المستثمرين والشركاء. 

 “صادق” لم يكن صادقًا في ادعائه بأنه لا يحتاج إلى رقابة خارجية، والدرس المُستفاد من سام هو ان الابتكار لا يعني ان نتخلى عن الشفافية، والالتزام بالمعايير، والرقابة الخارجية فهي ليست فقط مسائل تنظيمية، بل هي الأساس الذي تُبنى عليه الثقة والنزاهة.

&nb