جوع.. (بقلم الكاتبة الكويتية: بدرية مبارك)

بدرية مبارك
الأدب
الجوع
الجوع العاطفي
03 نوفمبر 2023
Cover

 

 

لن يعوض أحدهم غيابك. 

 

كإنارة الشارع بعد أن يغادرها الضوء! ولن يملأ أحدهم قلبك مالم تملأه بالحب.

 

قادني الجوع  لأقرب مطعم بعد خروجي من صلاة العشاء من الحرم المكي، وصلت لأقرب مطعم أوصلتني له قدماي...أخذت وجبتي جلست على الرصيف كي أُطمئن صراخ معدتي.

مع اللقمة الأولى أردت أن  أعتذر لعيني لأنها لا تطل على شرفة خضراء..ولم أتناول وجبتي في غرفتي الفاخرة..كان مشهد الوحيد قبالتي رجل بأقدام متشققة.

لوهلة ظننته ينتظر وجبته مثلي ..أو يترقب من يشفق عليه من المعتمرين ويشتري له معه كعادة فعل الخير في ظل هذا المكان الروحاني. انتظرت،  قلت لنفسي: إن لم يلتفت إليه أحد سأعرض عليه ذلك .

كان يجلس على كرسي في زاوية رصيف المطعم حتى تشوشت بمشهد الصبيان يوشوشون في أذنه تارة ويشير لأحدهم بيده تارة..

وأنا أراقب هذا المشهد الذي أنساني البهارات الحارة في صحن الرز بيدي، ثم عدت متفحصة  لأطراف قدمة المتشققه. شقوق لايمكن أن تحل مشكلتها من أول جلسة تنظيف أو دعك.

«يستفزني جدًا هذا الأمر في أقدام الرجال وأعول وأظنه دومًا بأن ليس لديه امراة تعتني به جيدًا» كانت أمي تكرر وهي تهيؤني للحياة،  تقول  أقدام الرجل هي ما يكشف إهمال المرأة لزوجها   ...كجارتنا مستورة التي تزوجت رغمًا عنها دون اختيار فكانت كل وقتها تتنقل بين بيوت الجيران تثرثر كثيرًا وتنقل النميمة وتذم زوجها!

موضع من الجسم لايبالي به ولا ينتبه إليه الرجل، لكن زوجته ستكون مدركة للإهمال إما بتنبيه أو عناية وحبًا به...

ثم حلَّق بي خيالي إلى بيته وزوجته، كيف تحتمل بشاعة المنظر؟ ما شكل العلاقة بينهما؟

انتبهت أنني  انتهيت من إشباع جوعي للطعام، لكن الفضول بشأن الرجل استمر. أريد أن أمسك خيطًا أربط أمرًا. لا يمكن لأحدهم أن يكون بهذه الهيبة وفرض الثقة والسلطة بجسده المستريح الممتلئ!

انتبهت إلى أن فضولي لم يأخذني إلى وجهه، قبضة يده وجيبه...كانا الأكثر جذبًا لعينيّ ...يدخل يده في جيبه ويخرج مالا يقبضه كي لايرى ويؤشر لأحد صبيانه ويدسها  في يده كي يرسل لأحد المعتمرين المحتاجين الذين تمددوا على الشارع أمامنا..وكل ثلاث دقائق يكرر الأمر..

(بنك خيري ببوابة مهترئة وأثاث بال)

كيف ينبت الخير 

الحب من أرض مهملة 

قدماه كأرض جافة غادرها المطر....لايمكن أن نكون مصبًا للفرح وقلوبنا تصده ، نحن نعاقب أنفسنا عندما نفتح أذرعنا للحب، للعطاء، وتجاهلنا العناية بالنفس....

تبرير الحزن، الفقد، لا يعني أن ننسى باختيارنا 

كراهبة وهبت نفسها للكنيسة...أو كما فعلت اليزابيث العذراء..ولكي  ..أشبع جوع الأسئلة في رأسي. 

قلت لنفسي لا بأس. كم أشفق عليه ليس لدية زوجة بالتاكيد.

 

بدأوا ينتبهون لطول مكوثي...وأنا في غرابة المشهد.

رحلت ...ومعدتي تعاود الصراخ من جديد ليس جوعًا بل شبعًا وألمًا...

ما بين الجوع وما يقابله الشبع ما بين الألم وتضميده بالعطاء...

العطاء غير المقنن يسلبك ذاتك. 

عطاء المال حتى لا يبقى لديك شيئ كي تثبت ما يسمى كرم العرب. أجوع كي يشبع ضيفي وهذا للأسف ليس معنى لإيثار مطلقًا..ماذا لو تقاسمنا الطعام أنا وضيفي ونام كلانا دون جوع مثلا!

مشاعر السعادة التي نراها على ملامح الآخرين تسمى "نشوة لذة العطاء" كما يقول علماء النفس وهي الحاجة الملحه بداخلك لجوع تجاه من يمنحك هذا العطاء من مشاعر أو اهتمام أو رعاية أو التفاته!

 

امنح نفسك أولا، انقذ قلبك، ومن ثم  بإمكانك أن تظلل الزهر، فالشخص الذي يعرف كيف يحب نفسه سيعرف قيمة الحب ولمن يعطيها ومشاعره ومن يمنحها بمعايير مختلفة..علمونا كيف نحافظ على أشيائنا الثمينة على علاقاتنا ولم يعلمونا كيف نحافظ على الوقت! 

وحتى الوقت أصبح مهدرًا، فهذه القيمة المهمة يجب أن نفكر بها؛ تعطي وقتًا لمن وتقضيه مع من؟

هذه القيمة هي الأثمن مابين القيم الكثيرة.....هذا الرجل ذو الرجلين  البشعتين .. لو قضى وقتا لمعالجة آلامه ...والاهتمام بنفسة قبل أن يكون مصبًا لخير لا ينضب ويسترق الفرح الذي يريد من ملامحهم.

الجائع لا يفرق إن كانت لقمة من حاوية القمامة والشبعان لن يقبل اللقمة من قدر متسخ!!

لا تتطفل على فقر ونقص الآخرين وجوعهم... امتلئ كي يقترب منك الممتلئون.

 

حكاية الجوع كانت نهجًا لرواية إيميلي نوثمب في كتابها بيوغرافيا الجوع وهو سيرتها الذاتية بطعم الجوع تتحدث عن طفولتها وتنقلها بين البلدان وكيف يعيش طفل في عدم الاستقرار، وتتحدث عن معاني أخرى للجوع فليس الجائع هو فاقد الطعام.. فهناك جوع لوجود الآخرين.  

لم تمنحها أمها الحب باللمس والحضن بما يكفي فكانت تلاحق إشباع هذا الجوع إلى الحضن فكانت تتعلق في معلماتها وصديقاتها وتطالبهن دوما بهذا النوع من الحب ”الحضن". 

في رواية ذائقة طعام هتلر تقول" كانت أمي تقول إن الانسان يأكل لكي يقاوم الموت كانت تردد هذا قبل هتلر" وهنا المفارقة في وظيفتها التي أصبحت قدرها؛ أن تاكل قبل هتلر كي تواجه احتمالات الموت نيابة عنه، لم تكن واحدة كن مجموعات نساء باسم وظيفة“الذواقة" وظيفتهن فداء هتلر من أية محاولة لتسميمه.

 

الجريلين هو هرمون الجوع إشارة للدماغ كي يستجيب لشم رائحة طعام عند حالة الجوع  نحن مجموعة هرمونات تتحكم فينا الدوبامين المتعلق بالتوتر والغضب والمشاعر...جوع للمشاعر لكلام المديح والثناء وكلمات التقدير...

هل تعرفنا حقيقة عن مايحدث في الدماغ وكيف يوجهنا!

الكاتب النرويجي كنوت همسون في روايته الجوع وهي من الروائع الأدبية في القرن العشرين  وحصلت على جائزة نوبل، قدم فيها المؤلف صورة لحياة الانسان من عدة جوانب نفسية، وفي أثناء بحثي عن الحالة النفسية للكاتب اكتشفت أنه لم يبدأ كتابة هذه الرواية إلا بعد أن جوَّع نفسه اربعة أيام تقريبًا كي يعيش الشعور ويتقمصه للكتابة عنه بشكل أكثر واقعية..وهنا يكمن الإبداع.

 

نرى من هو جائع للكلام للعاطفة...جوع  المكانة الاجتماعية للمنصب للشهرة، جوع للمال وهذا حاصل في أصحاب الأموال الطائلة لايكتفي. يدخل في مرحلة تنافسية لاتنتهي للجمال، للكمالية، للمعرفة للتعلم. جوع للقراءة والتهام الكتب، جوع للتجاوب 

للمغامرة ...

نحن نبتكر دومًا عوالم تشبع فضولنا. والجائع هو دومًا من يسعى لذلك...انتبه أين يقودك جوعك للرضى والهدوء والسكينة أم المزيد من النهم واللاإنسانية. جوع الغاب الذي ليس فيه قوانين سوى الوحشية والأنانية، أن نسير بمحاذاة البحر وننساب مع صوت الموج  والتفكير يواصل فينا دبيبه والحاحه التي لا تنقطع. 

لو فكرنا في الجوع والعطاء، من يسقي الآخر فينا؟

لم انت جائع لو سألت نفسك الآن!