"الحزب الديمقراطي أصبح منشغلاً أكثر بقضايا الهوية والاثنيه وحقوق المثليين والمتحولين مما أدى إلى فقدان ثقته عند الطبقة العاملة التي تبحث عن حلول اقتصادية لمعانتها اليومية "
تعرض الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة لهزيمة ثقيلة كشفت عن أوجه ضعف كبيرة في استراتيجياته الانتخابية. تمكن الرئيس السابق دونالد ترامب من استغلال تلك الثغرات لتحقيق انتصارات حاسمة في جميع الولايات المتأرجحة تقريبًا وحتى جميع المقاطعات، وشهدت البلاد تحولًا كبيرًا إلى اليمين في عدد من الفئات الديموغرافية الرئيسية التي كانت تُعتبر تقليديًا داعمة للديمقراطيين. هذه النتائج الصادمة أثارت جدلًا داخليًا واسعًا في الحزب الديمقراطي حول السبب الرئيسي للخسارة، ويبدو ان هناك الان توافقًا متزايدًا على أن إهمال القضايا الاقتصادية والتركيز المفرط على قضايا الهوية كانا عاملين أساسيين وراء هذه النتيجة.
ركزت استراتيجية الحزب الديمقراطي خلال الانتخابات بشكل واضح على القضايا الثقافية، مثل العدالة الاجتماعية، حقوق الأقليات، والتنوع العرقي والجنسي بناء على مفهوم ان هذه القضايا مهمة لبناء مجتمع أكثر عدلاً، إلا أنها فشلت في جذب الناخبين من الطبقة العاملة التي تشعر بضغوط متزايدة بسبب التضخم، ارتفاع تكاليف المعيشة، وانعدام الاستقرار الاقتصادي.
تاريخيًا، كان الديمقراطيون يُعتبرون الحزب الذي يمثل الطبقة العاملة، لكن هذا التوجه بدأ يتغير تدريجيًا. تشير البيانات إلى أن الديمقراطيين خسروا دعم العديد من الناخبين من الفئات العاملة بمختلف انتماءاتهم العرقية والإثنية. هؤلاء الناخبون شعروا بأن الحزب لم يعد يعبر عن همومهم اليومية أو يقدم حلولًا واضحة لتحسين حياتهم المعيشية.
على الجانب الآخر، استغل ترامب والجمهوريون هذا الفراغ بتقديم خطاب مبسط وفعال ركز على تحسين الاقتصاد، خفض الضرائب، وزيادة فرص العمل. هذه الرسائل الاقتصادية وجدت صدى واسعًا لدى الناخبين الذين يبحثون عن حلول عملية لمشاكلهم اليومية.
أحد الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الديمقراطيون هو التركيز المفرط على التحذير من ترامب بوصفه تهديدًا للديمقراطية. حتى لو كان ذا الادعاء صحيحًا، إلا أنه لم يكن كافيًا لإقناع الناخبين الذين يواجهون تحديات اقتصادية مباشرة. فقد أشارت استطلاعات الرأي إلى أن قضايا مثل التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة تأتي على رأس أولويات الناخبين، في حين أن قضايا الهوية تحتل مرتبة متأخرة في قائمة اهتماماتهم. شيء بهذا الوضوح لم يلتفت اليه الحزب.
من جهة أخرى، لم تكن هناك رؤية اقتصادية واضحة أو موحدة للحزب الديمقراطي. في حملتها الانتخابية، لم تتمكن نائبة الرئيس كامالا هاريس من تقديم خطة اقتصادية ملهمة أو خطاب يركز على تحسين الأوضاع الاقتصادية للناخبين. بدلاً من ذلك، بدت الحملة متخبطة، تتنقل بين قضايا عدة دون تقديم رؤية اقتصادية واضحة. هذا التخبط أضعف الثقة في قدرة الديمقراطيين على تقديم حلول عملية.
إضافة إلى الرسائل غير الواضحة، واجه الحزب الديمقراطي تحديًا داخليًا يتمثل في الانقسامات بين جناحيه. الجناح التقدمي يضغط لتبني سياسات أكثر جرأة في القضايا الاجتماعية والثقافية، بينما يدعو الجناح المعتدل إلى التركيز على القضايا الاقتصادية والتوجه نحو المركز السياسي. هذه الانقسامات جعلت الحزب عاجزًا عن تقديم رسالة موحدة وجذابة للناخبين.
في المقابل، الحزب الجمهوري لم يعد تحالفاً وتمكن من توحيد صفوفه حول ترامب، الذي أصبح رمزًا للحزب. يمتلك ترامب قاعدة جماهيرية وفية تنظر إليه على أنه الزعيم الأوحد القادر على تحقيق التغيير الذي طالما وُعدوا به. هذه القاعدة، التي تضم قطاعات واسعة من الطبقة العاملة والناخبين الريفيين، تعتبر ترامب ممثلًا لمصالحها وقضاياها. يشبه ذلك في بعض النواحي تجربة هوغو شافيز في فنزويلا، حيث نجح شافيز في توحيد الطبقة العاملة والفئات المهمشة خلف قيادته، وأصبح رمزاً لحركة سياسية واجتماعية رأت فيه المخلص لمطالبها والطريق الوحيد لتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
على عكس الديمقراطيين، الذين يعانون من انقسامات داخلية بين الجناحين التقدمي والمعتدل، تمكن ترامب من توحيد الجمهوريين خلف أجندته السياسية. أصبح الحزب أكثر انصياعًا لرؤية ترامب، سواء كان ذلك في القضايا الاقتصادية، السياسة الخارجية، أو الهجرة. لم يظهر أي زعيم جمهوري يتمتع بنفس الجاذبية والكاريزما التي يتمتع بها ترامب. هذا يجعل من الصعب على الحزب ان يتميز بعيدا عن شخصية ترامب. هذا وان كان نقطة ضعف الحزب إلا انه يجعله يبدو متماسكاً في حين بدت الرسائل الديمقراطية متناقضة وغير متسقة.
تظهر نتائج الانتخابات أن الديمقراطيين يواجهون تحديًا كبيرًا في استعادة دعم الطبقة العاملة، التي كانت تقليديًا من أبرز داعمي الحزب. هذا التراجع يمكن إرجاعه إلى شعور العديد من الناخبين بأن الحزب الديمقراطي أصبح مرتبطًا بـ” النخبة”، التي تعطي الأولوية لقضايا مثل العدالة العرقية والهوية، على حساب القضايا الاقتصادية التي تهم الطبقة العاملة.
في حين أن هذه القضايا الثقافية مهمة للبعض، إلا أنها لا تلبي الاحتياجات المباشرة للناخبين الذين يواجهون تحديات يومية في تأمين معيشتهم. تجاهل هذه القضايا جعل الناخبين ينظرون إلى الحزب الديمقراطي على أنه منفصل عن واقعهم اليومي.
يحتاج الديمقراطيون إلى إعادة تقييم استراتيجياتهم بشكل جذري. التركيز على الاقتصاد يجب أن يكون أولوية قصوى، مع تقديم حلول عملية لتحسين الأوضاع المعيشية للناخبين. على الحزب أن يتبنى خطابًا يتحدث بلغة الاقتصاد الشعبي، مثل خفض التكاليف، زيادة الأجور، وتقليل التفاوت الطبقي.
علاوة على ذلك، يجب أن يقدم الحزب قيادات ملهمة قادرة على توحيد صفوفه وتقديم رؤية واضحة.
إذا أراد الحزب استعادة موقعه كحزب للطبقة العاملة، فعليه إعطاء الأولوية للاقتصاد وتقديم حلول عملية وملهمة. التركيزعلى قضايا الهوية لن يكون كافيًا للفوز بالانتخابات القادمة، بل يجب أن تكون هناك رسالة اقتصادية قوية تعيد بناء الثقة مع الناخبين.
في عالم السياسة، الفوز ليس مجرد نتيجة للحظ أو الظروف، بل هو نتيجة للقدرة على فهم أولويات الناخبين. الحزب الديمقراطي فوت الفرصة وعليه انتظار أربع سنوات قادمةً ليرتب أوراقه.